فرن أبو طليب ورائحة الخبز والعودة...
كلما عدتُ إلى المزار لزيارة الأهل، قادتني قدماي دون وعي إلى سوق المزار القديم في الجهة الغربية من البلدة، حيث كان أهلها يعرفون بعضهم بعضًا فردًا فردًا. أما الآن، فهي على وشك أن تصبح مدينة لا أعرف فيها إلا أبناء جيلي ومن هم أكبر سنًا.
أول ما تسترجعه ذاكرتي من ذلك السوق هو اليوم الذي اصطحبني فيه والدي -رحمه الله- إلى المدرسة الابتدائية لأول مرة. كانت المدرسة حينها مبنى مستأجرًا من ورثة المرحوم سليم بن مشوح النوايسة، وتقع وسط السوق تمامًا، وأمامها فرن أبو طليب، وهو المعلم الأشهر في المزار. كان أهل القرى المجاورة يندهشون حين يرون النساء والأطفال يحملون عجينهم على صناديق خشبية ليخبزوه عند أبو طليب -رحمه الله- مقابل مبلغ شهري ورغيف مقتطع من كل خبزة، إذ إنهم اعتادوا على الخبز في طوابينهم أو إعداد "الشراك" منزليًا دون الحاجة إلى أفران.
أما "مربعة" السوق، كما كان يُطلق عليها أهل البلدة، فكانت بمثابة الوسط التجاري، تعج بالمحلات التجارية المميزة -بمقاييس ذلك الزمان- بالإضافة إلى الفرن الشهير، الذي كان صاحبه من أهلنا في فلسطين. وقد استقرت في المزار عائلات فلسطينية مثل عائلة أبو نواس، الحلحولي، الشعلاني، وأبو طليب، الذين جاؤوا مع النكبة عام 1948 وأثروا المجتمع المحلي بأنماط زراعية ومهن جديدة، مثل النجارة (الشعلاني) والمخابز (أبو طليب).
كان أبو طليب شخصية متفردة، متمسكًا بحب فلسطين بطريقة صوفية نادرة. وكان جهاز الراديو المتراكم عليه الطحين مصدر أخباره الأساسية، حيث لم تفارقه أخبار فلسطين والأغاني الوطنية ورسائل الشوق حتى رحيله. كان رجلاً صادقًا قليل الكلام، متزنًا دافئ اللسان، ولكن حين يتحدث، تخرج كلماته مزيجًا من السخرية والألم والحنين. وكان والدي يمازحه عندما يأتي لشراء الطحين، فيرد عليه أبو طليب قائلاً: "لا أرتاح حتى أعطي الناس حقوقها، فليس أصعب من ضياع الحق كما ضاعت فلسطين."
كانت بيوت البلدة القديمة تت clustered حول المسجد، والصعود على أسطحها الطينية كان يتيح العبور بين البيوت بسهولة. وعندما زار الشهيد وصفي التل المزار أواخر عام 1969، قرر توزيع أراضي الوقف على السكان، فانتقلوا إلى مناطق جديدة وهُدمت البيوت الطينية، باستثناء فرن أبو طليب، الذي ظل راسخًا كشاهد على الزمن، وصاحبه لا يرى أرضًا تضاهي فلسطين، زاهدًا في كل ما عداها.
ترك أبو طليب أثرًا لا يُمحى في ذاكرة المزار، وظلت رائحة خبزه عالقة في الأذهان. كلما مررتُ بالسوق، تخيلته في أيام الشتاء الباردة، واقفًا أمام بيت النار، يخرج أرغفة الخبز البلدي، بينما النساء والأطفال يسرعون في حملها قبل أن "تدمل"، إذ كانت المزار دائمًا على موعد مع الثلج الذي لا يخلف عهدًا معها.
رحم الله أبو طليب وأسكنه فسيح جناته، فما زالت رائحة خبزه تسكنني كلما أوغلت بي السنين، وكلما أوغل في الرحيل...
وإلى المزار، مرتع الصبا ومهوى الفؤاد، أقول كما قال الجواهري لدمشق:
كنتُ الطريقَ إلى هاوٍ تنازِعُهُ *** نفسٌ تسدُّ عليه دونَها الطُّرقا وكانَ قلبي إلى رؤياكِ باصِرتي *** حتى اتَّهَمتُ عليكِ العينَ والحدقا