غزة/ الضفة الغربية- هدى بارود وسامر البرغوثي
تَجمعت قلوبهم خلف أبواب "صدئة" ينتظرون بشغف سماع صوتِ "القطار".. فهو إن فاتهن "يقيناً" منذ زمن، رُبما يحمل في عرباته الحديدية "أبناءهن" الذين اختاروا الغربة "ذات الأموال الجزلة"..
إن نظرت لهن مباشرة، لا تحتاج لتسألهن عن "ألمهن"، فتجاعيدهن "طويلةُ العمر" في وجوههن المُتعبة تكشف لك ما تُريد.. "ببساطة تركَنَا أبناؤنا واختاروا حياتهم بعيدا عنا، رحلوا دون أن يلتفتوا وراءهم، بريق المالِ خطف أبصارهم ورائحته أنستهم عبيرنا.. إننا وحيدون حال جدران منازلنا، لا يؤنس ليلنا إلا قمر إن غاب زادت غربة أرواحنا، ولا يسمع غير الله شكوانا"..
فلسطينيات لضرورات مالية تركهن أبناؤهن مُختاري الغربة، فبعد أن كان يجمعهم المكان، تفرقت أجسادهم ولا شيء بعد اليوم يجمعهم سوى الذكرى ولهفة روحٍ ترنو اللقاء.. فعيشهن اليابس وإن بللته الدموع، مُر بمرارتها، وقاس على أفواههم كما هي الوحدة قاسية على الروح..
"فلسطين"، بين أربعة جدران، التقتهم تمسحُ برفق على قلوبهم، فمراسلوها في الضفة وغزة -لساعة من الزمن- هم أبناؤهن، "يلعبون" بحنان دور من اغتربوا تاركي أمهاتهم في الوطن..
أمريكا "اختطفتهم"..
نظرت إلى الجدار "البارد" بتمعن، وقبل أن تطلق تنهيدة باهتة، بلهفة تأملت في عيني وقالت: "فات القطار وبقينا ع المحطة..حياتنا انتظار وترقب"، فهل فعلا حياتهم جميعهم انتظار!.. الحاجة حليمة أسعد من بلدة سنجل شمال رام الله لا يحيط بها في بيتها المتطرف عن المدينة إلا الفراغ الذي تحوم في خلوته ذكرى "أيامٍ خوالي" جمعتها بأبنائها القاطنين في الولايات المتحدة الأمريكية.
حِسها الأمومي يرافقها حتى بعد اغتراب "فلذات أكبادها"، وهم إن نسوا حنانها، هي لم تنسَ أنهم بحاجته، قالت لـ "فلسطين" بذات الألم السابق :" لما قررَ أبنائي السفر للغربة لم أمنعهم، فحياتي ازدهارها بنجاحهم، ولم يخطر في بالي أن رحيلهم عني سيؤرق ليلي ويسرق النوم من عيني".
تعيش الحاجة أسعد (70 عاما) في بيتها وحيدة بعد أن غادرها ابناها مسافرين للعمل والدراسة في الولايات المتحدة الأمريكية، لا يكسر جمود وحدتها إلا بعض اتصالات مُتباعدة تصلها على هاتفٍ قديم بـ"قرص".. "أنتظر رنة الهاتف كل يوم، وأنظر له في النهار ألف مرة، كأني سأرى الرنين قبل أن أسمعه" قالت مُضيفة.
في حياتها أنجبت أسعد عشرة، ثلاثة منهم فقدتهم صغارا، والثمانية الباقون اغتربوا، بين متزوجات في الأردن ومسافرين للعمل أو الدراسة في أمريكا، حتى بناتها اللواتي يسكن في ذات القرية تشغلهن حياتهن الزوجية وأبناؤهن عن والدتهن.
قالت: "عشرُ سنوات منذ تزوجت آخر بناتي وغادر آخر أبنائي راحلا من فلسطين، وهي المُدة التي عشتها وحيدة لا شريك يرافقني الأكل أو الشرب، وأرفض المبيت خارج المنزل، حتى في السنة التي سافرتها إلى أبني الأكبر في أمريكا، رفضت البقاء أكثر من اثني عشر شهرا، فالحياة هناك جافة وجامدة، وصوت الأذان الذي لا يُسمع فيها يزيد قسوتها".
ومثلها حكاية أخرى تقطن ذات البلدة، ولكن اسمها يختلف، فالحاجة فاطمة عويس ذات الخامسة والثمانين، تركها أبناؤها خريفَ عامٍ مهاجرين، وتاركيها تُساقط سنوات عمرها كأوراق شجر "الفصل" الذي لا يُنسى..
تقول : " ابتعدوا مرة واحدة، وتركونني كأي شيء خلفهم، صحيح أنا لا أغضب عليهم ولكن أحتاجهم".. وبألم أضافت :" لما كانوا صغاراً حضنت أعمارهم إلى أن كبروا، فطلبت أحضانهم ولم أجد.. حسبي الله على أمريكا التي اختطفتهم"...
تستعين عويس بجارتها أسعد على حياتها، فالاثنتان تجمعهما غُربة الأبناء وإن كبرت الأخيرة بالعمر عن السابقة قليلا، تقول :" جارتي هي ونسي ورفيقي، فحياتنا النهارية معا، وكل رحلاتنا نترافقُ بها، حتى طعامنا وملابسنا، ورغم ذلك لا شيء يعوض الأبناء"..
إن أتى الموت!!
فهل الغربة لمالِ وعلم بديلا عن حنان الوالدة؟، هل أمريكا وغيرها أحنُ على أجسادنا وأرواحنا نحن الأبناء من أمهاتِ تذوقن الموت لأجلنا؟، وهل تُهون الهدايا والمال الذي نُرسله لهن ألم مخاضِ عشنه مرتين، الأولى لما صارعن الموت لدفعنا للحياة، والأخرى لما دفعناهم نحن للوحدة؟!..
أنس أبو الكاس شاب في منتصف العشرين، بغير إرادته تركه والداه، فبعد أن سافر لعشر سنوات بحثا عن العلم في "كوبا"، عاد ولم يجدهما، إذ إن الموتَ الذي وزع بالمجان في حرب غزة الأخيرة طالَ عمريهما، وفقدهما هو.
في لقاء لـ "فلسطين" معه في ذكرى الحرب الأولى ملأ الدمع مقلتيه "ندما" على تركه والديه عشر سنوات، وبالرغم من حصوله على الشهادة الجامعية التي يرغبُ، إلا أنه يتمنى لو شارك والديه الموت، فذكراهما لا تفارقه وروحاهما تُحيط به، وهو شديد الاشتياق لهما.
فهل ينتظر أبناؤنا في الغربة موتنا حتى يستشعروا ألم أنس؟!.. الحاجة مريم قطوم والتي تقطن قرية جلجيليا قضاء رام الله أجابتنا قائلة :" أتمنى أن يأخذ الله أمانته من جسدي، فالموت أهونُ علي من الوحدة بدونهم، ولكن هل هم فعلا سيشتاقون لأمهم إذا الموت فاجأهما؟!، وهل سيندمون على غربتهم؟".. تساؤلات ملأتنا حيرة وأعجزت لساننا.. هل فعلا سيندمون؟!!
سألت قطوم، وقبل أن نفكر بالإجابة بدت من الخلف التجاعيد الثقيلة, عيناها اللتان يرتسم فيهما حزن غريب، فهما حالكتا السواد تقطر الحسرة منهما "ألما"..
(ابتعدوا مرة واحدة وتركوني كأي شيء خلفهم صحيح أنا لا أغضب عليهم ولكن أحتاجهم، وعندما كانوا صغاراً حضنت أعمارهم إلى أن كبروا، فطلبت أحضانهم ولم أجد.. حسبي الله على أمريكا التي اختطفتهم, الحاجة حليمة)
تقول :" عمري قارب التسعين، وأبنائي انسحبوا من بيتي كالقطط الصغيرة التي تهجر والدتها إن هي استطاعت الاعتماد على نفسها، فكلهم غادروا مغتربين إلى الخارج بحثا عن حياةٍ أفضل"..
يزور أبناء الحاجة قطوم فلسطين كل عام مرة، في الصيف، تعيش فيها حلماً عذبا لشهر أو اثنين، ومن ثم تستيقظ على كابوس "الوحدة"، الذي يسرق من يديها ملمسهم.. فهي لكبرِ عمرها "أسفا" لا تراهم جيدا، وتكتفي بلمسِ وجوههم.. فيداها دليلها، تتعرف بها ملامح أبنائها وأحفادها وتقيس شوقهم "بالتلامس"..
رغم ذلك.. هي وحيدة، تسخطُ على الغربة وتتمنى أن تطالها يداها فتقتلها خنقا أو تُغرقها، تقول :" لو أستطيع أن أمسك الغربة لقتلتها، فهي التي أبعدت أبنائي عني، وحرمتني منهم"..
تعيش العجائز السابقات حياةً "جامدةً" لا يُحرك تفاصيلها الثقيلة إلا الذكرى، فهن بانتظار الموت، يأتي فيتكلن على الله مُودعات، لا لغربة ولكن لـ "راحة"..
الحاجة فاطمة أبو حطب، توفيت منذ عام تقريبا، وكان موتها "غريبا" بمعنى الكلمة، فهي بعد أن غادرها أبناؤها الثلاثة مهاجرين إلى استراليا وكندا، عاشت وحيدةً برفقة زوجها خليل إلي أن اختاره الله ، فرحلَ عن الدنيا لا يعرف عن أبنائه إلا أنهم بخير..
وبعد أشهر من وفاته وفي الشتاء تحديدا اتصل أكبر أبنائها على الجيران يسألهم عن والديه، لماذا لا يجيبان على الهاتف، جارهم أخبره أن والده توفي منذ مدة قصيرة، ووالدته لا يعرف أحد أخبارها.. وانتهى الحديث.
وبعد أربع وعشرين ساعة على أقل تقدير خرجت رائحةٌ غير طيبة من منزل الحاجة فاطمة، وكانت الصدمة حينها.. فهي ميتةٌ في ساحة بيتها وجسدها مُتصلب ومُنتفخ.. الجار الطيب اتصل بالإسعاف وأقام للحاجة بيت عزاء ومن ثم اتصل بابنها لأكبر يخبره.. وحسب شهادته فالابن ألقى السماعة بعد سماع خبر وفاة والدته وطريقة موتها، وقُطع الاتصال.. أي يبدو أنه فقد الوعي أو الصدمة أخرسته.
رعايتهم "واجب" وعقوقهم "كبيرة"..
فهل أبناؤنا يا ترى ينتظرون نفس المصير ليشعروا بألم الفقد والغربة الذي تشعر به أمهاتهم؟!..
أستاذ التربية المساعد في الجامعة الإسلامية د. داود حلس أجابنا عن سؤالنا قائلا: "يجب على الابن أن يبر والدته حتى وإن كان مغتربا بداعي العمل أو المال، فاتصاله بها أو زيارتها أو حتى دعوتها لزيارة الدولة المغترب فيها الابن نوع من البر الذي يجب أن يحرص عليه الأبناء المسافرون".
وتابع :" إن تجاهل الابن والدته في غربته فالأثر النفسي الذي سيعود عليها بالتأكيد سيكون سلبياً جدا، وقد يمتد أثره ليتسبب بأمراض عضوية"، مشيرا إلى أن الشعور بالوحدة والغربة يختفي عند الأبناء نتيجة الاعتياد على الحياة، ولكنه من الصعب أن يختفي عند الوالدة.
وقال حلس: "تشعر الأم بالغربة بعيدا عن أبنائها وإن كانت في وطنها الأصلي، ولا يمكن لها أن تعتاد بسهولة على غياب أبنائها"، ناصحا الأمهات باحتساب غربة أبنائهن عند الله، فما سفرهم إلا للعمل أو العلم.
في حين أكد أستاذ الفقه المقارن المساعد بكلية الشريعة والقانون في الجامعة الإسلامية أن معاني البر بالآباء تختلف، مع ضرورة ذلك، وقال :" بر الوالدين واجب على الأبناء، وما أكثر من الأدلة الشرعية المؤكدة على ذلك، فالله تعالى قال :" وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا"، والرسول الكريم لما سأله أعرابي من أحب الناس بصحبتي أجابه ثلاثاً أمك".
وأضاف: "وإن كان البر واجبا بالأبوين فالعقوق كان من الموبقات، وكفالة رعاية الآباء مهمة لا يُخلى منها الأبناء وإن سافروا، فحتى المسافر الذي لا يستطيع إعالتهم مباشرة يجب عليه أن يخصص أشخاصا لخدمتهم".
وشدد السوسي على أن مسؤولية رعاية الآباء ونفقتهم لا تسقط عن المسافرين، إلا إذا كانوا في ضيق مادي، قائلا: "إذا كان الشاب فقيراً وكان وضع إحدى أخواته البنات المادي جيدا، تُلقى أعباء التكاليف المادية عليها، وهذا أيضا لا يعني أن أحد الأبناء معفي من رعاية والديه".
المصدر: صحيفة فلسطين
تمت الاضافة من قبل
info@howiyya.com
بتاريخ
01/07/2010