ذاكرة لا تهدأ… الحاج أحمد صالح أحمد يستعيد أدق تفاصيل الشجرة”
دمشق – 15/11/2025
هــويــة – فدوى برية
في أجواء محافظة على عادات وتقاليد أهلنا في الترحيب بالضيف وإكرامه، استقبل الحاج أحمد صالح أحمد (أبو نبيل)، من مواليد عام 1945 في قرية الشجرة قضاء طبريا، وفدَ «هوية» صباح يوم السبت 15/11/2025، في منزله الكائن في مخيم الرمدان. ومع فنجان من القهوة العربية الأصيلة بدأت الحكاية.
ولد أحمد صالح أحمد عام 1945 في قرية الشجرة التي تبعد نحو 17 كيلومتراً إلى الجنوب الغربي من طبريا. وقد نزح من الشجرة سنة 1948 وهو في الثالثة والنصف من عمره، إذ حملته أخته التي كانت تكبره بعشر سنوات باتجاه الحمة، ومنها إلى تل شهاب حيث أقام مع عائلته عند بعض الأقارب. وكانت الأمراض والبعوض منتشرَين في تلك المنطقة، فتوفي اثنان من إخوته بالمرض. ثم رحل بعدها إلى درعا، حيث زادوا في عمره سنتين ليتمكن من الحصول على الإعاشة والمواد التموينية وغيرها، إضافة إلى كرت أزرق باسم والدته.
ومما يتذكره الحاج أحمد كالحلم: عين الماء في الشجرة، وقد زرع والده إلى جانبها شجرة ليمون ما تزال صورتها موجودة. وقد ذهبت أخته (عمرها الآن 90 عاماً) عام 1973 لزيارة الليمونة وتصورت معها. كما يحتفظ بصورة أخرى لها مع الشومر في فلسطين، وبصورة لكرم فيه شجرة خروب كبيرة، تعد من الدرجة الثانية بعد العسل في قيمتها الغذائية، وهي من أشجار فلسطين المشهورة، وما تزال موجودة لكنها تحتاج إلى تهذيب.
ويروي أنه عندما كان مدرساً ثم مدير مدرسة، سأله أحد الزائرين ضمن وفد أوروبي:
«هل ما زلت تتأمل في العودة إلى فلسطين؟ وهل ستعيد لك الثورة فلسطين؟»
فأجابه الحاج أحمد بحزم: «نعم. وسأخرج من هنا حافي القدمين، وأحمل أولادي أو أحفادي من الرمدان إلى القنيطرة، إلى فيت، إلى طبريا، إلى الشجرة. وإن لم أعد أنا فسيعود أولادي، وإن لم يعد أولادي فسيعود أحفادي. لن نرضى، ولن نتنازل عن حقنا، ولن ننسى. ومهما امتلك الكيان من قوة وصواريخ وطائرات سننتصر، ونحن المرابطون في فلسطين».
ثم استشهد بقول النبي ﷺ: «المرابطون إلى أن تقوم الساعة»، وقال: «نحن الشهداء إن شاء الله».
ويؤكد أنه يملك بيتاً في الشجرة، وكان والده يملك بقراً ومغارة كبيرة قبالة القرية على أرض رومانية قديمة، فيها عين الشجرة التي ما تزال قائمة حتى الآن. وكانت النساء ينزلن إليها عبر 20–30 درجة ليملأن الماء. واليوم يضع الاحتلال لافتات “أملاك الغائبين” بالعربية والعبرية على تلك الأراضي، إضافة إلى بقايا أثرية رومانية. وكان تعداد أهالي الشجرة عند خروجهم من فلسطين نحو 720 نسمة، وفيها زيتون وليمون ورمان وصبّار، وهي أرض زراعية خصبة. وكانت الشجرة ولوبية وحطين تتبع طبريا في أيام الحكم العثماني، بينما كانت صفورية وكفر كنا وترعان تتبع الناصرة رغم قرب المسافات، وذلك وفق التقسيم الإداري العثماني.
ويتابع الحاج أحمد: «نحن في الرمدان نتبع دمشق، وكانت سجلات المنطقة كلها في طبريا. وكان أهل الشجرة يعتمدون على الزراعة والزيت والزيتون، وكانوا متحابين متعاونين في الأفراح والأتراح، ومدافعين عن قريتهم. ولم يرضَ أهل الشجرة مغادرتها إلا بالقتال. غير أن بريطانيا زودت الصهاينة عام 1948 بالأسلحة الحديثة عند انسحابها من فلسطين، وخاصة أن اليهود شاركوها في الحرب العالمية الثانية ضد ألمانيا وتركيا واليابان. وهكذا أعطت بريطانيا فلسطين لليهود وطناً قومياً».
ويختم قائلاً: «بإذن الله، وبهمة الشباب والثوار وأصحاب القضية، وبقدر إيماننا بحب الوطن، إننا لعائدون. وإن لم نعد نحن فسيعود أولادنا وأحفادنا، فالقضية لن تموت، وسنظل نقاتل حتى ننتصر».
ويذكر أن والده أحمد صالح القاسم ورث عن أبيه نحو خمسين دونماً في الكرم، وكان يملك بقراً وغنماً ودجاجاً، ويحرث الأرض على ثورين بسكة قديمة، ويزرع القمح والشعير. وكانت الأرض خصبة جداً، والمزروعات بعلية، والأمطار غزيرة. كما كان يزرع الدخان والباذنجان والكوسا والخيار والبصل وغيرها، ويرسلها إلى طبريا، إضافة إلى الحليب والألبان. وكان هناك «العجان»، وهو راعٍ يأخذ الأبقار إلى السهل لإطعامها لقاء أجر، وتعود كل بقرة إلى بيتها وحدها مساءً.
ويشير الحاج أحمد إلى أن الساحل الفلسطيني كان يشتهر بالحمضيات والجوز واللوز والنخيل، ولم تكن الأمراض منتشرة. ويروي أنه عام 1948 نزل والده بالبقرات وقطع الطريق إلى تل شهاب عند أقاربه، ثم عاد ونزلهم من الشجرة إلى الحمة، وركبوا القطار من الحمة إلى تل شهاب ومنها إلى الشام.
نشأ الحاج أحمد في بيت من أربع غرف مبنية بالحجارة، وبأبواب عالية، وجانب البيت مغارة تُوضع فيها الأبقار شتاءً، وفي الكرم ثلاث غرف تُستخدم صيفاً. وكانت أرضية غرف الحيوانات منخفضة بينما غرف البيت مرتفعة كي يتمكن من الإشراف على الأبقار ليلاً بسبب الضباع، وكان يربي الكلاب للحماية. كما أن «عين الكرم» ما تزال حتى الآن، وقد ذكر أقاربه أن الاحتلال أغلقها. وذكرت أخته أنها زارت الكرم عام 1973 وقطفت الليمون من الشجرة التي زرعها والدها، وكان في الكرم تين وخروب ولوز وجوز ورمان وصبّار، وكانت العائلات تجتمع عصراً لتناول الصبّار واللوز.
كانت زراعات الشتاء قمحاً وشعيراً وحمصاً وعدساً، كلها بعلية، وكانت أرضهم أرض خير. أما الصيف فكانوا يزرعون البامية واللوبية والخيار والبندورة، وكانت تكبر بعلاً. حتى الكوسا كانت تُزرع بحبة واحدة وتُسقى مرة ثم تنمو وحدها. أما الدخان فكان لهم فيه رخصة من الدولة، يزرعونه وينمو تلقائياً.
ويقول الحاج أحمد: «اليهود أخذوا أجمل وأغزر وأفضل أرض في العالم، ليس فقط بين الدول العربية. أرضنا أرض الأنبياء والأولياء، قال النبي ﷺ: لا تُشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد… والصلاة في المسجد الأقصى تعادل خمسمئة صلاة. نحن مرابطون حول أكناف بيت المقدس إلى قيام الساعة».
ويسترسل في الحديث عن المدرسة التي كانت في الشجرة، وعن أخيه إبراهيم الذي خرج من القرية وهو في الثانية عشرة ويتقن الإنجليزية لأنه درسها منذ الصف الأول. وكانت المدرسة حتى الصف الرابع ويبلغ طلابها نحو مئة طالب من أصل نحو 400 نسمة. وبعد الصف الرابع ينتقل الطلاب إلى ترعان حتى الصف التاسع، ومن ينجح فيه يرسل إلى صفد للثانوية، ومن ينجح يصبح معلماً.
كما يذكر إمام المسجد ياسين السالم، وهو من حفظة القرآن، ويقال إنه تخرج من الأزهر، وكذلك وجود أربع عائلات مسيحية كانت متعايشة مع أهل القرية. وفي معركة الشجرة هدم الاحتلال المسجد والكنيسة اللذين كانا متجاورين.
ويضيف: «كان في القرية مختار اسمه محمد درويش، ومن الوجهاء والدي صالح أحمد قاسم، وعمي محمود عوض، وعمي سعيد عوض، وخالي أبو جميل قاسم، وحسن الأحمد ودايس. وكانت زيارات بين الشجرة وصفورية ولوبية وحطين وكفر كنا وترعان يتبادلون فيها الأفراح والأتراح. ومن شعراء الثورة أبو عرب إبراهيم الصالح، وهو خال الفنان ناجي العلي».
ويتحدث عن الحمايل ومنها حمولة «الخطباء» التي ينتمي إليها، وعن عالمهم ياسين السالم، كما يروي قصة جده عوض العساف الذي عمّر الجامع على نفقته وكان فارساً مشهوراً. ويتذكر قصص العلاج في طبريا وخراب الدولة العثمانية بعد الحرب العالمية الأولى وتقسيم البلاد بين بريطانيا وفرنسا.
ويروي حكاية «الحنتور» البريطاني الذي رآه أحد أهل الشجرة في طبريا عام 1920 فظنه عربة دون خيل، فاستغرب الأهالي حتى رأوه. كما يذكر قصص البيادر والحصاد والمباطحة والمقالب التي كان يقوم بها الشباب، والقصص التي كان يسمعها من والده في السهرات.
كما يتحدث عن الحياة اليومية: الطابون، الجرش على «الجاروشة» الحجرية، الطاحونة في لوبية أو صفورية، الطعام الطبيعي، الطب العربي، تجهيز العرائس في طبريا، ولباس أهل المدن والقرى في زمن الثورة الفلسطينية عام 1936.
ويصل حديثه إلى أيام السلطان عبد الحميد حين حاول اليهود إغراءه بالسماح بالاستيطان فرفض، ثم جاءت البعثات الصهيونية بعد تغيّر الحكم، وبنوا أول مستعمرة «السيجرا» قرب الشجرة. ويذكر أن اليهود كانوا يتحدثون العربية مثل أهل القرية، وكان من أصدقاء والده رجال منهم طوبيا وعزراحي ويعقوب العشي، وكان بينهم حسن جوار في تلك الأيام.
ويختم حكايته قائلاً إن الاحتلال كرر ما فعله العصابات الصهيونية عام 1948 في الضفة الغربية اليوم من تهجير ونهب، لكن إرادة العودة لا تموت، والأرض لا تُنسى، والحق لا يسقط، وسيعود إليها أهلها مهما طال الزمن.
