لم يكن إلا طفلاً عندما خرج مع عائلته من بيته وأرضه في سحماتا، طفلاً لم يتجاوز السابعة من العمر، طفلاً لم يحمل معه إلا ذكريات ومشاهد عن البيت والأرض والمدرسة، لكنه احتفظ بهذه الذكريات حتى تحولت عنده إلى مشاعر وأحاسيس بل إلى يقين بأن حقه بهذه الأرض (سحماتا) لن يموت ولو بعد 64 سنة من التهجير.. هذه ما تلمسه من الدقائق الأولى من الحوار مع الأستاذ محيي الدين عوض الجشي.
" أنا محي الدين عوض الشيخ محمود محمد سعيد الجشي من سكان بلدة سحماتا قضاء عكا، من مواليد 1941 ، كنا نعيش في سحماتا في بيت جدي محمود وكانت زوجته إبنة عمه عائشة سعيد الحبشي، ثم إنتقلنا الى بيت آخر خاص بنا، وكان لنا أراض كثيرة، يزرعونها بالزيتون والقمح وكل ما يحتاجه الفلاح الفلسطيني.
بالنسبة لأعمامي ووالدي فقد أنهوا فقط تعليمهم للصف الرابع الإبتدائي واشتغلوا في زراعة الأراضي وتدبير شؤونها، ولكن جدي حسب ما علمت من والدي رحمهما الله كان قد توجه إلى الشام لدراسة الفقه والشريعة، وأمضى سنتين ثم عاد الى القرية ولم يكمل الدراسة، ولذلك أطلق عليه أهل البلد الشيخ محمود.
الجشي .. والمشيخة
أما الشيخ حسين الجشي فحسب ما سمعت من والدي وجدي أنه كان رجلاً فقيهاً حتى أنه وصل إلى قاضي صفد. الشيخ يحيى الجشي كان يدرس القرآن للأولاد في سن 5 – 7 سنوات، حفظاً وتفسيراً وتجويداً، وكان ابنه الشيخ يونس، وأيضاً الشيخ محمود الشجي، الذي لا يزال يسكن في صيدا، كان إمام المسجد في سحماتا.. ولذلك كثير من عائلة الجشي يطلق عليهم لقب الشيخ.
ومن غير عائلة الجشي كان هناك الشيخ عبدلله سلمون كان يدرس القرآن ، أنا أذكر كنت أدرس القرآن مع أبناء جيلي عند الشيخ عبد الله سلمون.
أنا لا أزال أذكر سحماتا، كانت فيها حارتان، الحارة التحتا والحارة الفوقا، وكثيراً ما كنت أزور الحارة الفوقا، لأن دار جدي المختار سعيد موسى كانوا هناك.
وكنت أزور المختار علي صالح قدورة لأنه زوج عمتي بسيطة، كل ما أذكره أنه كان أهل البلد متحابين مع بعضهم، وكانوا متعاونين يحبون بعضهم وخصوصاً كان هناك عائلات مسيحية قليلة جداً ولكن كان العيش المشترك يسود بين المسيحيين والمسلمين من أبناء القرية، حيث أن المرضعة إذا جفّ لبنها كانت تذهب إلى إمرأة مسيحية فترضعها والعكس صحيح، ويتزاورون في الأعياد المختلفة. وكان هذا في جميع القرى الفلسطينية التي كان فيها خليط من المسيحيين والمسلمين.
بيتنا في القرية
كنا في القسم الغربي (الحارة التحتا) ، على طرف البلد. بشكل عام كان بيتنا واسعاً جداً، العائلة كلها تسكن فيه، وكان بنفس البيت مكان منخفض أكثر مما يسكنه الأم والأب والأولاد، كانوا يضعون فيه الحيوانات (البقر والثور ..)، وكان حول البيت أرض تزرع بالخضروات وكان حوله تين شماطي 7 شجرات تين تحديداً .
جيراننا كانوا أسعد زيدان ، محاذي للبيت، ومن الجهة الشرقية محمود محمد خليل قدورة ، ثم من الجهة الجنوبية الشرقية كان أبو محمد ابراهيم (أبوالعبد ) قدورة ثم يليه والد أبو ماهر اليماني ، ثم من الجهة الجنوبية الغربية الحاج اسماعيل بلشة.
زياراتنا لخارج سحماتا لم تكن إلا لزيارة طبيب، أذكر أنني ذهبت إلى عكا برفقة والدي ووالدتي لأنني مرضت، ولم يكن هناك طبيب في القرية.
كان عدد من رجال البلد قد تجندوا مع الأتراك، وأذكر واحداً اسمه نايف حمودي كان مع الاتراك، حتى عندما جئنا إلى بعلبك، كان هناك شجر حور طويلة جدا" ومعمرة وأخبرنا أن هذه الشجرات زرعها هو عندما كان مع الأتراك،هذا ما سمعته منه ومن أولاده.
الخروج عن سحماتا
سنة 1948 خرجنا من بلدتنا الحبيبة إلى لبنان بعد أن قصف الصهاينة بلدتنا لعدة أيام ، وقد شهدت القصف في النهار صباحاً وظهراً وعصراً وحتى ليلاً ، وقد دمّر بيت جدي وبيتنا، كنا تلك الليلة قد خرجنا إلى الزيتون وبتنا هناك وقد نجّانا الله من كيد الصهاينة ، وعلى ما أذكر أنه كان لعمي حسن مهرة أصيلة كان يعتز بها، وبقصف هذا البيت قُتلت المهرة ، وعلى ما أذكر وأنا نائم في الزيتون سمعت بكاءه على هذه المهرة وعلى البيت، قاتل الله الصهاينة الذين أخرجونا من بيوتنا الى لبنان.
توجهنا صباحاً من بلدة سحماتا على الطريق الشمالي الموصل إلى بلدة دير القاسي ثم إلى بلدة الرميش اللبنانية، ومن هناك ذهبنا الى أقاربنا من آل الجشي في بلدة محرونة ، كان يعرفهم الشيخ يونس رحمه الله ، مكثنا عدة أيام ثم توجهنا إلى صور ( البرج الشمالي )، ثم إنتقلنا الى ثكنة غورو في بعلبك.
خرج معنا جدي وجدتي وأعمامي جميعاً والمختار علي صالح قدورة لأنه كان زوج عمتي بسيطة، كنا بنفس الطريق وتوجهنا الى بعلبك . إنطلقنا مشياً على الأقدام ، ولكن انتقلنا إلى مخيم برج الشمالي بالسيارات ثم بالسيارات إلى بعلبك وفي الثكنة تم توزيع الناس على (القواويش)، وكان كل قاووش يتسع لست عائلات، وللأسف الحالة كانت مزرية، وكان يفصل بين العائلة والأخرى بطانية فقط لا غير. ثم في آخر المطاف وضعوا حجارة لبن.
من آل الجشي لم يستشهد أحد أثناء القصف على سحماتا، موزة زوجة أسعد نمر توفيت من القصف ، وزوج ابنتها التي تزوجت في شعب قُتل. ثم قتل المرحوم مصطفى علي قدورة ، ومحمد عبد الرحمن قدورة. وخالي أحمد سعيد العبد أصيب ونقل الجرحى إلى مستشفى البص الحكومي الذي ما زال موجوداً لحد آلان.
معظم العائلات في سحماتا خرجت ولكن عدداً قليلاً جداً بقي، مثل فهد الجشي ومثل علي العبد قدورة وآخر من دار محمود، هؤلاء بقوا ولكن ليس بسحماتا، لأن العدو دمّر بيوت البلدة بكاملها.
عندما كان يسمح للفلسطينين بزيارة أقاربهم في الأراضي المحتلة، إحدى الزائرات جلبت لي رسالة من إبنة فهد الجشي تدعوني لزيارتهم والتعرف عليهم، ولكن نظراً للظروف لم أستطع أن ألبي الدعوة.
أنا لم أدرس في سحماتا إلا في الصف الأول، ثم خرجنا من فلسطين، وعندما وصلنا الى بعلبك، بنفس مخيم غورو لم تكن هناك مدرسة. وكان في مدرسة بمخيم قريب منّا هو مخيم ويفيل والآن يطلق عليه مخيم الجليل في بعلبك، فكنا نذهب مشياً من غورو إلى ويفيل متخذين خط القطار بين البساتين حتى لا نسير على الشارع العام ، ونتعلم فترة ثم نعود برفقة الأساتذة. وفي السنة الثانية إفتتحوا المدرسة في مخيم غورو.
عند الخروج من سحماتا لم تخرج العائلة أوراقها الثبوتية معها، لأن الناس كانوا متصورين أنهم سيخرجون لأسبوع أو أسبوعين ثم يعودون، لأنه لم يكن هناك وعي حقيقي لمشروع الصهاينة.
كل ما أذكره أن والدي أخرج معه ثورين وعدة رؤوس من الماعز ثم باعها جميعا في بنت جبيل لينفق على زوجته وأولاده. بيعت الحيوانات بثمن متدن جداً لأن الوالد كان مضطراً.. وأذكر أن والدي حاول أن يعود الى سحماتا ووصل إلى بيته فوجد البيت فارغاً ولم يستطيع أن يجلب إلاّ بعض (مراطبين) العسل ، كان معظم المزارعين عندهم خابية من العسل، ولكن أبي لم يجد إلا بعض العسل وهذا كل شيء، كانت أغراض البيت مسروقة".
العودة إلى سحماتا
قبل أن نختم الحديث مع الأستاذ محيي سألناه السؤال المعتاد، إذا ما كان لا يزال يحلم بالعزدة إلى سحماتا بعد مرور 64 سنة على النكبية، فكانت إجابته مفعمة بالحنين والحماس في نفس الوقت.. فالأستاذ لا يزال يتحلى بروح ثورية تبتهج مع كل عمل مقاوم من أجل فلسطين..
"العودة إلى فلسطين أمر بديهي لأنه لا تزال ذكرى بلدة سحماتا تسري في عروقي وعروق أولادي وأحفادي، نادراً ما يمر يوم إلا وأفهم أولادي وأحفادي بأن لنا أرضاً مقدسة علينا أن نعمل لإعادتها، بالجهاد حتى لو طال الزمن.. المهم أن تبقى الذاكرة قائمة ولا تصبح ذاكرة صدئة.
نحن جذورنا في فلسطين، ونحن وأبناء البلدة علينا أن نكرر ذكر اسم فلسطين واسم بلدتنا، لا أتحدث عن نفسي شخصياً ولكن على كل فلسطيني أن يفهم أولاده وأحفاده أن له أرضاً مقدسة عليه أن يعود إليها. هذه رسالة يجب أن نفهمها لأولادنا لن ننسى أن لنا بلداً وأراضي وممتلكات انتزعها الصهيوني منها وطردنا إلى الأقطار العربية .
أريد أن أتحدث عن إحساس، صدقني، عندما كان الثوار الفلسطينيون يدكوّن مستعمرات العدو الإسرائيلي كنت أفرح فرحاً كبيراً لأنهم يقومون بواجب التحرير، ولا أنسى في 2006 عندما قامت المقاومة اللبنانية بدك هذه المستعمرات، كنت أشعر بداخلي أن شيئاً ما يدغدغني فرحاً وابتهاجاً بأن وقت العودة سيأتي إن شاء الله بعونه تعالى.
وأقول علينا نحن الفلسطنيين أن نتعظ بأن المفاوضات لا تأتي بنتيجة إطلاقاً، لا ينفع إلا العمل الدؤوب لجمع الصف وإعادة الابتسامة والمحبة والإرادة، وكذلك العمل على إحياء الذاكرة للأولاد والأحفاد بأن فلسطين لنا.
وبلا شك فإن حماسي انتقل إلى أولادي وأحفادي، فهم جميعاً لديهم الإحساس أن لهم أرضاً وسوف يعملون لإستعادتها، ويفهمون أولادهم كذلك، أنا أقول ليس فقط لأولادي وإنما لأولاد الشعب الفلسطيني، وربما الأولاد والأحفاد يتمسكون بالأرض أكثر من آبائهم وأجدادهم، وعندما ننظر إلى الشهداء الفلسطينين، هم الذين ولدوا خارج فلسطين، يذهبون لمقاتلة العدو ويستشهدون، أقول لا يمكن للأولاد والأحفاد أن تخونهم الذاكرة إطلاقاً.