بقلم: منى أبو شحادة**
"كان بإمكاني العودة إلى بلدتي يعبد ولكني رفضت التخلي عن هذا البيت الذي عشت فيه أروع أيام حياتي", بهذه الكلمات بدأت أم خالد الماضي تستعيد شريط ذكريات سينمائي بالأبيض والأسود يستذكر كل ما علق من ذكريات في ذهنها منذ سنوات بعيدة. كانت تحدق بأشجار البرتقال التي كانت تحمل بين ثناياها حبات كبيرة من الثمر الشتوية اللذيذة. بدأت أم خالد تروي قصة دخولها أول مرة إلى تلك البلدة الجبلية؛ حيث تنعش نسمات البحر الأبيض المتوسط التي تطل عليه قلب كل من يزور تلك المدينة، التي دخلتها أم خالد في سنوات الأربعين الأولى.
كانت تنظر إلى الفضاء الرحب وهي تحدثنا عن ذلك العرس الأسطوري الذي وصلت خلال زفته الكبيرة إلى بلدة إجزم، تلك البلدة التي أغرتها بياراتها الخضراء وتلالها التي تتراقص على صفحة البحر المتوسط؛ تغريه بخضار بنات التراب الأسمر. لم تكن رحلتها من يعبد إلى إجزم سهلة في سنوات الأربعينيات الأولى، ولم تشأ أن تغادر بلدتها الصغيرة لتعيش في بلدة لم تعرف أن القدر نسج فيها حكاية عمرها عبر سنين طويلة. بدأت تروي حكايتها في إجزم الخضراء ورعشة السنين لم تقوَ على يديها الصلبتين:
دخلت إلى هذه البلدة وأنا صبية صغيرة، لم أعرف كيف أتصرف ولم أكن الزوجة الأولى لزوجي، ولكن كان علي التأقلم، وساعدتني البيئة المميزة في إجزم فقد كان أهالي البلدة عائلة واحدة تعمل بجد وتتسامر في لياليها المضيئة بقناديل النجوم المتلألئة.
رعشة السنين لم تقوَ على قوة الحاجة أم خالد الماضي، التي ما زالت تسكن المنزل الوحيد في إجزم المهجرة عام 1948. بدأ دوي الرصاص يخترق مسامعنا وكأنه يحدث أمامنا وهي تستذكر نكبة 1948؛ التي هجرت قرى الساحل على اثرها؛ حيث وقعت فيها أكبر وأبشع المجازر لعصابات الهجاناة الصهيونية. أم خالد هي الشاهد الوحيد على احتلال وتهجير القرية، فقد بدأت الأنباء تصلهم عن احتلال قريتي الطنطورة القريبة وعين غزال، كما وبدأت تصل أخبار مشابهة عن عين حوض إلى ناقورة إجزم (المنطقة التي كانت تسكنها أم خالد). بدا التوتر واضحاً على زوجها الذي قرر أن يذهب للدفاع عن القرية مع أهالي القرية الآخرين.
تؤكد أم خالد في نهاية أول فصول ذكرياتها:
البلدة سقطت وهجر أهلها، لكن زوجي قرر: إما الموت في البيت الذي تربى بين جدرانه، وإما المقاومة والبقاء في البيت، سنوات طويلة حاول الجيش والحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، أن يرغمونا على الخروج من المنزل ومن القرية التي لم يعد يسكنها سوانا، فمنعوا الكهرباء والماء من الوصول ومنعوا شق طريق إلى القرية، ولكن زوجي بات مصراً أكثر على البقاء في قريته وبين جدران المنزل الذي حمل ذكرياته.
الحاجة أم خالد أم الاختراع
"من يرتوي من مياه إجزم لا يمكن أن يخذلها":
حزن كبير وقلق على مصير عائلتها، كانا يجتاحان أم خالد بعد أن توفي زوجها. فمن كان يتوقع من تلك الزوجة الشابة التي كانت تعتني بصغارها وبالبيت القديم الذي تسكنه، أن تصبح أماً شرسة تدافع عن ملكيتها للبيت الذي وصلته فتاة صغيرة لم تدرك بعد أن التاريخ سيقول كلمته التي تغير مسار مصيرها؟! فقد تحولت تلك الأم الحنون إلى مدافعة قوية أمام دولة دموية حاولت بشتى الطرق إخراجها من بيتها، وآخر تلك الوسائل كانت بزرع جار يهودي سكن في الأرض المحاذية للبيت الذي تسكنه أم خالد، ولكن مع مميزات لم تحظَ بها عائلة أم خالد الماضي. فقد منح جارها الذي استوطن الأرض المحاذية لها بعد وصوله من المغرب العربي، المياه والكهرباء، ومنح القوة ليقدم شكاوى قضائية ضدها بسبب الإزعاج وسرقة مساحة من أرضه، لكن الحق كان أقوى من ادعاءاته التي خسرها.
بقيت الحاجة تدبر أمورها بحنكتها وصمودها. قامت بتوفير المياه التي تتدفق من عين ماء موسمية لم تعرف أم خالد مصدرها، لكنها كانت تروي عطشهم في الشتاء. قررت الحاجة أم خالد أن تجد طريقة لتخزين المياه الزائدة من الشتاء في صهاريج خاصة للمياه لاستخدامها في الصيف. وفي كل مرة يصل ضيف لزيارة الحاجة لتشعر بدفء التضامن مع حقها، تجبره على تذوق تلك المياه ذات المذاق الحلو، ليزداد إيمان ضيوفها بحقها مؤكدة: "من يرتوي من مياه إجزم لا يمكن أن يخذلها".
دوام مدرسي من الخامسة صباحاً وحتى الخامسة مساءً:
وهكذا تدبرت الحاجة أم خالد نمط حياة لم يصعب التأقلم معه حتى لأطفال ابنها الصغار. على الرغم من حلمهم الصغير بالاستيقاظ بوقت متأخر للذهاب إلى المدرسة مثل بقية زملائهم، فهم يستيقظون مع شفق الصباح عند الساعة الخامسة أو قبلها بقليل للوصول مبكراً إلى المدرسة التي تبعد الكثير عن منزلهم. فهم يصلون يومياً إلى بلدة الفريديس التي تبعد حوالي (10 كم) عن قرية إجزم المهجرة لينهلوا من بحر العلم الواسع، وطريق العودة حفظت خطوات أقدامهم الصغيرة التي يعودون عبر طريقها الترابي ليكملوا رحلتهم مع الدراسة، ويقومون بالعمل على الوظائف البيتية التي لا تسعفهم الشمس بتأجيلها، لوقت متأخر من الليل. فدراستهم يجب أن تتم قبل الغروب لعدم وجود الكهرباء في البيت.
وطريق العودة تأخذ مع أحفاد أم خالد ما يقارب 3 ساعات للوصول إلى البيت الكبير الشامخ الواقف وحده فوق تلة ناقورة إجزم، التي هجر سكانها وخلت من أهلها ما عدا صمود عائلة أم خالد.
الحاجة أم خالد.. وهم البنات حتى الزفاف:
وتكمل أم خالد قصة معاناتها مع السلطات الإسرائيلية التي "لم تكل ولم تمل" في محاولة لإخراج أم خالد من بيتها: "كنت خائفة على مستقبل ابنتيّ اللتان كنت أخشى أن تبقيا وحيدتين حتى نهاية عمرهما في هذا البيت البعيد عن الحياة الاجتماعية التي تمر سريعاً في البلدات المجاورة. كنت أخشى ألا استطيع تحقيق حلمي برؤيتهما عروستين، وأن أكون أنا سبب تعاستهما بسبب قراري الصارم بعدم مغادرة إجزم إلى بلدة مأهولة بالسكان".
وتتابع أم خالد:
"فقط هذا السبب الذي جعلني أؤنب نفسي على قرار البقاء في إجزم، فلم أتوقع أن ترضى إحدى الفتيات العصريات بالعيش في بيتنا كزوجة لابني خالد، بدون ماء ولا كهرباء؛ الأمر الذي سيرهقها وكأنها تعيش منفصلة عن العالم. ولم أتوقع أن أجد أصهارا (أولاد حلال) يحمون بناتي لطيلة العمر، لكن الله كان معي دوماً؛ ولذلك سخر لبناتي زيجات من أقارب لنا في مدينتي الناصرة وشفاعمرو، وابني خالد وجد رفيقة عمره التي وافقت على مشاركته الدرب الطويل. وهكذا اطمأننت على مصير عائلتي واطمأنت عيني بان أبنائي لن يتخلوا عن البيت الذي عاشوا فيه وكل حجر من جدرانه تحمل ذكرياتهم الطويلة".
الوطن ليس حقيبة وأنا لست مسافر:
في نهاية زيارة الحاجة أم خالد كان لا بد أن نرتوي من عين إجزم لكي نعود إليها مرة بعد مرة نطمئن على تلك المرأة القوية التي خشيت في البداية من نشر تلك الذكريات المميزة، خوفاً من ان تجد السلطات الإسرائيلية فيها ما تستطيع أن تسخره لصالحها في محاولاتها لإخراج عائلتها من البيت. لكن وبعد أن هدأنا من خوفها، ما كان منها إلا أن أكدت لنا على أنها لن تتخلى عن هذا البيت الذي سيحميها حتى آخر يوم في حياتها. فهي لن تجد مكاناً أخر تلجأ إليه أكثر من جدران منزل عاشت فيه لأكثر من ستين عاماً. فهي لا تستطيع مغادرة هذه الأرض كما فعل جيرانها الذين حاولت السلطات زرعهم بجوارها ومنحتهم الميزات الكثيرة والتسهيلات ليستطيعوا محاصرة بيت الحاجة أم خالد. لكنهم لن يستطيعوا إلا أن يحزموا أمتعتهم ويغادرون المكان، لعدم قدرتهم على تحمل العيشة المنعزلة في اجزم، فارتباط أم خالد باجزم امتن من علاقة عابرة، او مصطنعة تنشأ على امتيازات او ما شابه. ام خالد لا تستطيع أن تحزم أمتعتها وحقيبة سفرها وتمضي لمكان آخر، فكما يقول شاعر فلسطين الراحل محمود درويش: "وطني ليس حقيبة وأنا لست مسافر".
__________________________________________________________________________
*القصة الصحفية الفائزة بالمرتبة الثالثة في مسابقة جائزة العودة للعام 2011, حقل القصة الصحفية.
** منى ابو شحادة : 22 عام , الجليل- الناصرة , تحمل الشهادة الجامعية الاولى في علم النفس والإعلام, صحافية في موقع العرب وصحيفة كل العرب.