
كان المخبز الذي أعمل فيه يقع في ما يسمى اليوم بمنطقة (الحرس) أسفل المسجد، واكتسبت المنطقة اسمها من متاريس الحرس الذي وضعه الجيش الشعبي إبان حرب النكبة عام 1948، حيث كانت تلك المنطقة هي المدخل الأهم للمدينة، للقادمين من القدس من جهة الشمال، ومن بيت جبرين من الجهة الغربية، وأذكر جيدًا ملامح البؤس على وجوه أبناء المدينة المتطوعين في الحرب، حينما عادوا بعد سقطت بيت جبرين، حيث كانوا يسيرون كأنهم فقدوا أنفسهم ليس بيت جبرين فقط، فالناس باعت كل ما تملك لشراء السلاح، وبعضهم خرج للقتال بدون شيء أملًا في أن يغنم السلاح من ساحة المعركة
من نفس الطريق (بيت جبرين) توالت هجرات سكان قرى الخليل الغربية (الدوايمة/ الفالوجة/ بيت جبرين/ دير نخاس…..الخ) وأقاموا بالبداية في منطقة خربة النصاري (جامعة الخليل اليوم)، وبعدها ساد الكساد الاقتصادي في البلاد وارتفع ثمن كل شيء، أصبح سعر رطل الطحين 40 قرشًا وكان العامل يتقاضى 17 قرشًا مقابل يوم عمل كامل، كنا سابقًا نرى الشاحنات المحملة ببرتقال يافا تعبر الشارع نحو سوق الخليل، وآخر ما رأيته دبابتان مصريتان انحرفتا عن الشارع وسقطتا في الوادي في زخم الحرب.
ولدت وترعرعت بالقرب من عين قشقلة وجامع علي بكا، وطفولتي تحمل ملامح مدينة تغيرت بالكامل، درست في المدرسة المحمدية وكانت حينها تابعة للبلدية لا للمعارف الحكومية، وكان شارع الشلالة هو نقطة الوصل إلى كل مكان، ألاحق مع الأطفال الكركوزاتي الذي يحمل صندوق عجب، ندفع له نصف قرش من أجل أن نجلس لبضع دقائق كي نرى الصور ونسمع الحكايات، وفوقنا عيادة (لوبا اليهودية) طبيبة الأسنان بالقرب من مسجد باب الزاوية، تلك المجرمة الحاقدة على العرب حيث كانت تتعمد خلع أسنانهم بلا تخدير.
كان الشارع حيويًا وخاصة بدايته عند باب البلدية القديمة، حيث يتجمع العمال الذين يحملهم الباص للعمل في يافا، كل شيء بعد قرار التقسم عام 1947م بدأ بالتغيير، واستشعرنا الخطر الحقيقي حينما أصبحنا لا نستطيع السفر من الخليل للقدس دون أن نُصفّح الحافلات والسيارات بالفولاذ بسبب هجمات اليهود المتمركزين في كفار عصيون، هذه المستعمرة التي هاجمها ثوار المدينة في الحرب وأجبروا كل من فيها على الهرب، وبعد النكبة كل شيء اختلف، حتى مدرسة العميان (العلائية) ذهبت بطلابها ولم يعودوا، وتركوا أخي العاجز وحيدًا، بعدما كان له رفاق ومدرسة وحياة يعيشها بكل هناء.
في حرب النكسة عام 1967م عندما دخل الجيش الاسرائيلي المدينة سمعت بنات العصابات الصهيونية تغنين (نحن بنات الهجاناة سبع دول ما تلقانا، صيفنا بفلسطين وإنشالله عمان مشتانا)، كانت البلاد تغلي بعد هزيمة العرب وسقوط شعارات التحرير والقومية، وعرفنا أن مصير الفلسطيني يجب أن لا يكون إلا بيده، في أول عمليات المقاومة قمنا عام 1968م قمنا بضرب قنابل على الحاكم العسكري الاسرائيلي ومدير المخابرات، تم إلقاء القبض علينا وسجنت لمدة 10 سنوات، وهدم الجيش بيتي وحينما خرجت عمرته من جديد، لكني أيقنت أن كل من ذهب لن يعود.
جانب من اللقاء الثري والممتع الذي أجراه فريق التأريخ الشفوي التابع لنادي الندوة الثقافي يوم أمس الأربعاء 19/2/2025 مع السيد عبد الحي حسين القواسمي مواليد مدينة الخليل عام 1934م، الشكر موصول له ولعائلته على حسن الضيافة والاستقبال.
المصدر: نادي الندوة الثقافي
20/02/2025

