محل سليم عودة
بعد مقهى الخطيب ، أيضا مع حركة عقارب الساعة ، كان هناك طريق يتفرع عن ساحة المنزول ، ويتجه الى المدخل الشرقي للقرية ، تليه زريبة مكشوفة للمواشي ، ثم طريق آخر يتفرع أيضا عن الساحة ، ويتجه الى الحارة القبْلية . عند أول هذا الطريق، لجهته الغربية، ومقابل الزريبة، كان هناك محل سليم عودة. كان جداره الشمالي جزءا من الضلع الجنوبي للساحة. وكان يليه على هذا الضلع مقهى صغي، فملحمة، فمنزل .
كان محل والدي سليم عودة مستطيل الشكل.مدخله من جهة الشرق. وكان طول المحل يزيد على الخمسة عشر مترا ، ثلثها الأول ، من عند المدخل ، كان دكانا للبيع
بالمُفرّق. وباقي المحل كان مخزنا للبيع بالجملة. فيه تنك السمن، والجبنة ؛ وأكياس الدقيق ، السكر ، الرز، العدس ، الفول، الفاصوليا . وكان في المخزن أيضا بعض مُستلزمات البناء !
معروضات الدكان
كان الداخل الى الدكان يرى على الجدار الى يساره ، رفوفا عليها مرطبانات.
على رفّ منها مرطبانات الجوز، اللوز المُحمص، اللوز غير المُحمص، الصنوبر . وعلى رفّ آخر مرطبانات الفسْـتق عبيد المقشور ، الفسْـتق عبيد غير المقشور ، البندق ،القضامي الصفراء ، القضامي المالحة ، بزر البطيخ ، بزر اليقطين . وعلى ثالث، مرطبانات الملبّـس على قضامي ، الملبّـس على لوز . وعلى رابع ، مرطبانات أصغرحجما فيها المستكة ، الهال ، اليانسون ، الفلفل الأسمر الحب ، الفلفل الأسمر الناعم ، الكمون ، جوزة الطيب، الزعفران، القرفة العيدان، القرفة الناعمة، المردقوش ، البن المطحون .
كان الشاي في هذا المحل، يُعرضُ في الصندوق الذي يأتي فيه من المصنع . وكان هذا الصندوق مرفوعا عن الأرض على الخشب. وكان مصنوعا من خشب رقيق اسمه مْعاكس . وكان مُبطنا بورق فضّيّ لامع.
وكان أهل الزيب أكثر استهلاكا للشاي منهم للبن . وكذلك كان أولئك الذين عُرفوا باسم مهنتهم ، النواطير ، أي حراس البساتين . وكان هؤلاء يعيشون في البساتين التي يحرسونها كانوا يشربون الشاي بكثرة . وكانوا يحبونه شديد الاحمرار مائلا الى السواد . وكانوا يحبونه شديد الحلاوة أيضا ، فيضاعفون كمية السكر في الكوب . وكانوا في الزيب يضربون المثل بهذا الشاي ، فيقول أحدهم : مثل شاي النواطير ، بمعنى أن الشاي شديد الاحمرار ، وشديد الحلاوة .
وكان تحت هذه الرفوف التي على الجدار الى اليسار ، أكياس السكر الأبيض ، السكر الأسمر ، الرز ، العدس المجروش ، العدس الحب ، الفول المجروش ، الفول الحب ، الحمص . وقد رُصّت هذه الأكياس على الخشب ، أحدها لصق الآخر . وطوي بابُ كل كيس الى الخارج ، آخذا شكل الدائرة ، في داخلها كومة مما في الكيس .
وكان هناك قاطع على عمق نحو خمسة أمتار ، هي عمق الدكان ، وعرضه نحوثلاثة أمتار . كان هذا القاطع يُـشكل زاوية مع الرفوف الى اليسار . وكان طرفه من جهة اليمين لا يصل الى الجدار ، بل يترك مسافة نحو مترين بعيدا عنه . هما عرْض المدخل الى المخزن ، محل البيع بالجملة .
هذا القاطع ، كان خزانة من الخشب ، وأبوابها من الزجاج . كانت في صدر الدكان ، وكانت البضاعة المعروضة فيها متنوعة .
منها السجائر ، المحلية والأجنبية . من المحلية الصنع ، كان هناك سجائر النجاح ، ياتر ، ياتر سْـبَـشل . ومن الأجنبية ، سجائر بليـيرْز ، كرافن آى ، كاميل . وكان على علبة بليـيرْز صورة قبطان بحري . وعلى علبة كرافين آى ، صورة رأس قط أسود . وعلى علبة كاميل ، صورة جمل .
ومنها التبغ . وكان يأتي من ترشيحا ، مضغوطا في شكل مستطيلات . زنة المستطيل الواحد نصف الرّطل . والرطل يساوي كيلوغرامين ونصف الكيلوغرام . وكان لون هذا التبغ إما بُـنيّا أو أشقر . البُنـيّ ، حام . والأشقر ، " سـلـسْ " ، أي وسط بين الحامي والخفيف . وكانوا في الزيب يقولون تـتنْ ، بدل كلمة تبغ . أو يقولون دخانعربي ، أو يقولون دخان فلت .
ومن معروضات الخزانة التي كانت تتصدر الدكان ، وكانوا يسمونها الواجهة أيضا ، دفاتر ورق لفّ السجائر .
ومنها القداحات ، من نوع زمنـُه سبق قداحة الغاز بعقود . كانت القداحة من هذا النوع مُكوّنة من دولاب ، وحجر ، وفتيل . الدولاب فولاذيّ مُـسنـن ، ومكشوف . والحجر دقيق ، اسطواني الشكل ، يصل الى أسفل الدولاب من انبوب نحيل ، فيه عدد من هذهالأحجار . ويلتصق بهذا الأنبوب ، أنبوب ثان أغلظ منه ، هو أنبوب الفتيل . قطره يساوي قطر قلم الرصاص تقريبا . وكان إن ضغط أبهام اليد على الدولاب ، أداره على رأس الحجر في أسفله . فقدح هذا ، بفعل الاحتكاك ، شررا ، التقط الفتيلُ منه ما يكفي ، مع نفخات خفيفات ، لإيقاد جمْرته ، وإشعال السيجارة .
ومنها علب عيدان الثقاب . وكانوا في الزيب يقولون شحّاطه ، بدل علبة عيدانالثقاب ، وبدل كبريته . ومنها أيضا كتيِّبات من عيدان الثقاب . كانت عيدان الكتـيِّبنحيلة ، كعيدان العلبة . لكنها لم تكن مثلها دائما من الخشب . بل غالبا ما كانت من الكرتون المُقوّى . وكان على أحد طرفي العود ، سواء كان في العلبة أو في الكتيب ، مادة كبريتية قابلة للاشتعال ، لونها إما أسود أو بني أو أحمر . غير أن عيدان الكتيب كانت تختلف عن عيدان العلبة من حيث الطرف الآخر للعود . فهو في الكتـيب جزء من قاعدة لجميع العيدان ، تمسكها الدبابيس مع الدفة الخلفية للكتـيب .
ومنها علب التنباك .
ومنها حوامل السجاير . وهي ما يسمى واحدها باللغة المحْكيّة بز سيجارة .
ومنها الدفاتر المدرسية ، أقلام الرصاص ، أقلام التلوين ، اقلام الحبر ، المحابر ، المبرايات ، المحايات . وكانوا في الزيب يقولون دواية ، ولا يقولون محبرة .
ومنها المصابيح وأحجارها ولمباتها الصغيرة . مصابيح على اختلاف احجامها وأشكالها . العريض الذي بحجم الكف ، والاسطواني الطويل والوسط والقصير . وكانوا في الزيب يقولون بطارية بدل مصباح ، وزر بطارية بدل لمبة .
وكان هناك كرسي وطاولة كبيرة أمام هذا القاطع ، في صدر الدكان . وكان على الطاولة صندوقتان من الزجاج . واحدة منهما كانت للـتمْـر . وكان أهل الزيب يقولون عجوة بدل تمر . والثانية للمعمول ، من صُنع محلات الحدْأة في عكا .
وكان على الطاولة أيضا ، عدد من المرطبانات . فيها حَبّ السوس ، دْرُبْس ، نـقـل ، رُوح النعنع ، عـلكة . وكانوا في الزيب يقولون لبان ، بتسكين اللام ، بدل علكة .
كانت حبّات السوس سوداء ، وكانت لـيِّنة القوام .
وكانت حبّات الدربْس صلبة ، وألوانها متنوعة . منها الحمراء ، الخضراء ، الصفراء ، البيضاء . وكانوا يقولون مصّ الشفة ، أيضا .
وكان النُـقـل ملفوفا بالورق الملون . وفي داخل كل حبة ورقة بيضاء ، طبعت عليها حكمة أو نصيحة . مثلا ، عصفور في اليد ، ولا عشرة على الشجرة.والروح نعنع ، كان منه الأقراص . وهي بيضاء كالثلج . ومنه الحب المُـدبّـب ، على شكل الكشتبان الصغير ، ولونه أخضر . والعلكة كانت أشرطة رقيقة . كل شريط ملفوف بورقة بيضاء . وكل خمسة شرائط مُغلفة بورقة ملونة .
معروضات أخرى
وكان الداخل يرى في الجدار الى يمينه ، نافذتين عاليتيـن من فوق ، واطئتين من
أسفل . وكانتا مُحصّنتين بقضبان الحديد ، وبالحديد المُشـبّك .
وكانت الرفوف على هذا الجدار تحمل دبس العنب ، الطحينة ، الحلاوة ، الجبنة ، الزبيب ، البسكويت ، راحة الحلقوم . وكان على الرف الأسفل ، مباشرة فوق أرضالدكان ، تنكات الزيتون الأخضر ، الزيتون الأسود ، الزيت ، زيت للقلي اسمه زيت عيواز كما كان على أحد هذه الرفوف الصابون البلدي ، منه الصابون النابلسي الملفوف بالورق ، ماركة المفتاحين . وكان على الرف أيضا ، علب صغيرة ، مُربعة الشكل ، وغير عميقة ، مصنوعة من الكرتون الرقيق . فيها مكعبات " نيـلة " ، مُغلفة . واسمها مأخوذ من اسم لونها ، الشديد الزرقة . وهي مادة قصفة ، سريعة التفتت . وكان أهل الزيب يضعونها في ماء الغسيل . فهي في نظرهم ، تزيد بياض الملابس والشراشف البيضاءبياضا.
وكان على الرفوف العليا زجاجات الشراب المكثف ، كشراب الورد وشراب التوت .
وكانت إحدى هذه الزجاجات أصيبت ذات يوم بطلق ناري ، فسال الشراب على الرفوف الدنيا . مما استدعى جلب أم صافي من بيتها على وجه السرعة ، كي تغسل هذه الرفوف ، وتنظفها تماما من آثار الشراب ، منعا لتقاطر النمل اليها . وكانت أم صافي هي التي تنظف المحل ، كما كانت تساعد في شغل البيت .
أما كيف أصيبت زجاجة الشراب ، فهذا ما حصل : كان عند والدي في المحل ، رجل يعرض عليه مسدسا للبيع . وكان هذا المسدس من نوع اسمه " مُنشر " . وهونوع نادر ، غير معروف في الزيب . وهو لم يكن أبدا يُـداني شهرة وانتشار ، مُـسدسات مثـل
" نمرة تسعة " ، أو " برابيللو " ، أو " أبو بَكرة " . وكان للمُنشر صفة ينفرد بها من بين المسدسات جميعا في ذلك الزمان ، وهي أن فـوّهته أو ماسورته ، كانت طويلة جدا . وبينما كان والدي يُـقلب المسدس بين يديه ، يتـفحص قبضته ، ومشط الرصاص ، وبيت النار ، والزّناد .. انطلقت منه رصاصة اخترقت زجاجة الشراب واستقرت في أعلى الجدار .
الأوزان والنقود
وكان الميزان أيضا على تلك الطاولة الكبيرة ، التي كانت في صدر الدكان .
كانت الأوزان من النحاس الأصفر . وكانت أحجامها متفاوتة ، وفقا لتفاوت ثقلها .
أما أشكالها فكانت متجانسة ؛ جميعها كان على شكل القارورة الصغيرة .
كانت وحدة الوزن الصغرى هي الأوقية ، والكبرى هي الرّطل . والأوقيةتعادل مائتي غراما ، والرطل الفين وخمسمائة غراما .
وكان على الطاولة أيضا دفتر كبير . هو سجلّ ديون المحل على الزبائن . كان اسم المدين يُـسجل على رأس الصفحة . وتحت الاسم على أول السطر ، ثمن الغرض المستدان ، ثم اسم الغرض والكمية ، ثم تاريخ بيع هذا الغرض . وكان لهذه الطاولة جارور . فيه ما تجمّع من النقود المعدنية ، وبعض الأوراقالنقدية ، من فئتي الجنيه ونصف الجنيه . أما الأوراق من فئات الخمسة جنيهات ، والعشرة جنيهات ، فكان والدي يحملها في محفظة من الجلد يضعها في جـيبه .
والجنيه كان اسم وحدة النقد الكبرى . وأما الوحدة الصغرى ، فكانت القرش . وكان الجنيه الواحد يساوي مائة قرش .
وكان القرش من فئات النقود المعدنية . وكان بعض النقود المعدنية فضيّ ، والبعض الآخر نحاسيّ . وكانت النقود الفضية أربع فئات . هي القرش ، القرشان ، شلن الخمسة قروش ، وشلن العشرة قروش . أما النحاسية فكانت ثلاث فئات . هي المليم ، المليمان ، والتعريفة . وكان المليم عُـشر القرش ، والتعريفة نصفه.
المخزن
كان في المخزن نوعان من البضائع . الأول هو البضائع المعروضة في الدكان ، ولكن بكميات أكبر . والثاني هو البضائع التي كانت تباع بالجملة ، ولم تكن تباع بالمفرق . منها الإسمنت ، الكلس ، ألواح الزجاج ، قضبان الحديد .
كان زبائن المخزن في معظمهم من أصحاب الدكاكين ، في الزيب وفي بعض القرى المجاورة . وكان له أيضا زبائن من أرباب العائلات . يشترون السكر والرز وغيرهما بالجملة ، ليُموّنوا منازلهم منها ، خشية أن تنقطع من السوق بفعل ظروف مضطربة كانت البلاد تمر بها أحيانا .
كتاب قرية الزيب كما عرفتها - أحمد سليم عودة