وليد فاهوم، محامي وباحث وكاتب فلسطيني من مواليد مدينة الناصرة عام 1943، درس فاهوم في مدرسة الفرير وفي المدرسة الثانوية للبلدية في الناصرة، حصل على شهادة البكلوريوس في الفلسفة وعلم النفس من الجامعة العبرية في القدس، وفي عام 1974 حصل على إجازة الحقوق، نشط اجتماعيًا وثقافيًا، وانخرط في المؤسسات الوطنية بشكل خاص، ساهم في تأسيس اتحاد جمعيات العمل التطوعي في الناصرة. له العديد من الإصدارات والكتابات الثقافية، منها "نُباح العنصرية"، و"لابد للقيد أن ينكسر"، و"طيور نفي ترتسا" و"كتاب حكايات الحبل بلا
طريق العمارة!
لا أذكر في حياتي، طريقًا متعبة، شاقة، تقطع الأنفس، مثل تلك العقبات المتتالية من ميدان ابن رشد في الخليل، إلى العِمارة أو العمَارة. مشيت أضعاف تلك المسافة، وما زلت أمشي 10 كلم يوميا، لكن تلك المسافة التي قد لا تتجاوز الـ 2 كلم، كانت جهنميَّة.
طفل في العاشرة، مع والديه المسنين، المنكوبين والمنكوسين، بزيهما الفلَّاحي، نصعد مشيًا، لحضور جلسة محاكمة ابن آخر، عندما ننزل من حافلة شركة الباصات الوطنية، مع آخرين وأخريات من آباء وأمهات، أولاد جريمتهم أنَّهم قالوا لا للاحتلال.
قد تكون هذه العقبات، من تصميم مهندس في الكولونيالة البريطانية، ربما بعد بناء العمارة، وهي واحدة من حصون المهندس تيجرت، الذي صمم البنايات الكالحة، خارج المدن، مع تصاعد ثورات الفلَّاحين وانتفاضاتهم، التي أرَّقت الإمبراطورية الَّتي ستغيب عنها الشمس قريبًا.
تصميمات تيجرت الاستعمارية كثيرة، اكتشفت العام الماضي، تصميما له على أرض دير ياسين، بناية مخصصة لمعاقين يهود، عقلية السجن لم تفارق تصميمه للمساكين اليهود.
أخذت هذه البنايات، أسماءً مختلفة، من قبل الناس الذين صودرت أراضيهم لبناء مجمعات السجون والقمع هذه، ففي الخليل مثلًا سميت العمارة، قد تكون بنيت على أملاك الروس المنهزمين، أمَّا في بيت لحم فعرفت باسم البَصًّة، على اسم الموقع على شارع القدس-الخليل.
عندما نصل إلى العمارة، التي تضربها الرياح، ويتخلل البرد المسامات، يتبادل الآباء والأمهات، الأخبار، والتوقعات. أذكر وصول المحامي وليد الفاهوم، حاملًا حقيبته، كان يعمل مع المحامية فليتسيا لانغر، يطمئن منتظري الاطمئنان بمرحٍ وابتسامات، ولكن لا اطمئنان يمكنه الصمود، والأهل يعلمون انواع التعذيب الذي يذوقه الأبناء داخل الحصن الأصفر الباهت.
يسأله أحد الآباء عن علاقة القربي بفاهومي شهير آنذاك، فيرد: خالد الفاهوم ابن عمي اللزم!
يسأل المحامي الشاب، الآباء الفقراء، عن الأتعاب، فيصابون بالصم والبكم.
جربت لاحقا، أكثر من مرَّة، نزول الطريق، وكان يترك لدي نفس المشاعر. العمارة لم تعد قائمة. هدمها المحتلون خلال انتفاضة الأقصى، بنت السلطة مجمعًا كبيرا لها، على أنقاض العمارة، بأموال المانحين، الذين يطيب لهم إدارة الأزمات، لإطالة عمر الاحتلال.
على خطى معلمته لانغر، في التوثيق والكتابة، كتب الفاهوم ووثَّق لتجارب الأسرى الفلسطينيين. في صحف كالاتحاد الحيفاوية، وأصدر كتبًا، كانت، مثل كتب معلمته، مهمة لجيل منا يتلمس خطواته. كان افضل بما لا يقاس من تلميذ آخر للانغر، صديقا لمحمود درويش، استغل أهالي الأسرى.
رحل الفاهوم يوم أمس. وقبله رحل جيل الآباء والأمهات من طاردوا خلف أولادهم في السجون، ومنهم من فعل ذلك في العهدين السابقين البريطاني والأردني. رحل كثيرون من الأسرى الذين دافع عنهم أمام محاكم الاحتلال الصورية.
لم أسمع أخبارًا عنه منذ زمن، أمَّا العمارة التي خدمت البريطانيين والمصريين والأردنيين والإسرائيليِّين، فتخدم الآن السلطة الفلسطينية. هذا أمر شائع في بلاد يتغيَّر حكامها ويغورون، ولا يُهزم ناسها.
أحيانا أجلس في شارع الثقافة الصغير الجديد، حاملا ثقلا من كتب اشتريتها من دنديس، ومعجنات من فنون، وفلافل من الفاخوري. أرى طلابا من الأولاد والبنات، يختلسون النظر بوجل. أنظر الى بداية طريق العمارة. لا أفكر أبدا بصعودها.
#وليد_الفاهوم
