زياد كويكات – مخيم النيرب
«لو بعطوني مال قارون ما ببيع»
شهادة الحاج محمد حسين خليل
ابن قرية النهر – قضاء عكّا
حلب – الثلاثاء 2025/12/16
#هويّة – أ. زياد غضبان
بعد ترتيب موعد مع الأخ منذر خليل «أبو لؤي»، شقيق الحاج محمد خليل، أُجري لقاء توثيقي مع الحاج محمد حسين خليل «أبو سامر»، مواليد عام 1946 في قرية النهر – قضاء عكّا، وهو شقيق الحاجة زياد حسين خليل «أم رشيد قشطة» التي كانت المؤسسة قد أجرت معها لقاءً سابقًا، وذلك في منزله الكائن خلف سكّة القطار في مخيم النيرب.
خلال اللقاء، قدّم الحاج شهادة عن طفولته في قريته التي غادرها قسرًا عام 1948 وهو لا يزال رضيعًا. وعند دخولنا غرفته لاحظنا وضعه الصحي المتدنّي، ومع ذلك أصرّ على الحديث عن مسقط رأسه لإيصال رسالته إلى الأجيال القادمة. وبعد التعريف بالمؤسسة وهدف إجراء المقابلة وتدوين شجرة العائلة، شرع الحاج بالحديث قائلًا: «أنا الحاج محمد حسين خليل، مواليد 1947 – بلدة النهر»، موضحًا أن تاريخ ميلاده سُجّل رسميًا على الهوية عام 1948.
تحدّث عن قريته كما وصفها له والده، بأنها تقع على رابية صغيرة المساحة، يبلغ عدد سكانها نحو ستمئة نسمة، تضم عائلات بسيطة وبيوتًا قديمة، غير أن منزل جدّه كان مبنيًا من حجر سوري فاخر، ورثه عن والده، واسع المساحة، يضم أثاثًا نحاسيًا فخمًا كان أهل القرية يتغنّون به كلما رأوه، وتحيط به حاكورة جميلة تدور حولها العصافير. وأشار إلى أن معظم سهرات زعماء القرية كانت تُقام في منزل والده.
أوضح أن القرية تُحيط بها قرى الكابري وترشيحا وكويكات وغيرها، وسُمّيت بهذا الاسم لأن نهر الكابري يمر من منتصفها متجهًا إلى مدينة عكّا، واصفًا مياهه بالعذبة التي تروي المحاصيل ويستحم بها الأهالي، وذكر أن اسمها القديم هو «التل». ومن جيرانهم عائلات عطية ومرعي وصفر وعفيفة، مؤكدًا أن والده كان من زعماء القرية. وعلى أطراف شوارعها انتشرت أشجار البرتقال والحمضيات الشاهقة، وكان والده يمتلك أرضًا يزرع فيها الخضروات، إضافة إلى امتلاكه خمسة جمال كان ينقل بها الفواكه والخضروات للتجار بين مدن عكّا وحيفا ويافا وصفد.
وتطرّق إلى البنية التعليمية والدينية في القرية، فذكر مدرستها التي كانت تدرّس حتى الصف الخامس، والتي درست فيها شقيقته الحاجة زياد، وأشار إلى أنها حملته أثناء الهجرة وهو رضيع. كما تحدّث عن مساجد القرية التي كان يُدرّس فيها الكتّاب من قرآن كريم وحساب ولغة عربية. وأكمل حديثه عن المضافة، ومختار القرية خالد عطية، خال والده، حيث كانوا يتداولون فيها شؤون الزراعة والحصاد وأحوال الثورة والثوّار، وذكر أن والده التحق بالثورة في عكّا بقيادة الشيخ أسعد، والد أحمد الشقيري، وشارك في بطولات ضد الاحتلال وآلياته.
وعن العادات والتقاليد، استعاد الحاج محمد ذكرياته عن الأعراس التي كانت تستمر أربعة أيام، تُقام خلالها الولائم والذبائح، وتُلقى الأشعار في أجواء الفرح. أما لباسهم فكان الحطّة العربية والشروال والصدرية المصنوعة من الجوخ الإنكليزي. وفي الأعياد كانت الحلويات مميّزة ومحبّبة، يوزّعونها صباح العيد على المارّة، ويرسلونها إلى المضافة، حيث يتبادل كبار القرية التهاني في صباحات العيد.
وعن مسيرة الهجرة، استعاد الحاج محمد ذكرياته بأسى بالغ، وكأن الواقعة حدثت بالأمس، حيث بدأت رحلة اللجوء بخروج والدته مع إخوته نحو قرية الكابري، بينما كانت قريتهم خالية من رجالها المرابطين على جبال عكّا وحيفا، ينصبون الكمائن للصهاينة أثناء اقتحام القرى والمدن. وفي خضم القصف، نسيته والدته من شدة الهول، إلى أن وصل والده وهو مصاب في قدمه اليسرى بأربع طلقات، ملفوفة بشال فلسطيني ملوّن بدمائه. وبعد أن علم والده بما حدث، عاد إلى المنزل وأحضره، وأخذ معه مفتاح البيت موقنًا بالعودة.
بعد ذلك ركبوا قطارات نقل الأبقار، وتحملوا مشقّة الطريق من تعب وإرهاق وجوع وألم فراق الوطن، وصولًا إلى حلب، حيث أقاموا فترة في قرية رام حمدان في إدلب، ثم انتقلوا إلى مخيم النيرب في مدينة حلب.
وعند سؤاله عن التعويض أو التنازل عن مسقط رأسه، أشار بيديه رافضًا، وفاضت عيناه بالدموع، ولم ينطق إلا بتمتمات قليلة، إيمانًا منه بأن الأرض عِرض، ثم قال بحزم: «لا… لو بعطوني مال قارون ما ببيع»، وأضاف: «أبوي مات ونفسه بالعودة… أبوي علّمنا الوطنية».
وفي ختام اللقاء، التُقطت صورة تذكارية للحاج محمد مع شقيقه منذر «أبو لؤي»، الفخور به. ورغم مرور العقود الطويلة، ورغم مرضه الأليم في الجسد والروح، ما زالت قرية النهر وعكّا وفلسطين حاضرة في وجدانه، مع أنه خرج منها رضيعًا لا يعي معنى الوطنية، إلا أن والده علّمه وعلّم إخوته وأبناءه وأحفاده أن لا بديل عن ذرّة تراب تُستمدّ منها الكرامة في آخر الزمان
.