«هويّة» توثّق شهادة الحاج خليل فوزي الصّنجي
عكّا في الذاكرة… مدينة البحر التي لا تغيب
حلب | السبت 20 كانون الأول / ديسمبر 2025
زار وفد مؤسسة «هويّة»، ممثّلًا بالأستاذ زياد غضبان، الحاج خليل فوزي الصّنجي، من مواليد مدينة عكّا عام 1945، وذلك بعد ترتيب الموعد عبر جارهم وصديق المؤسسة العم أبو حسن تعمري، في إطار مشروع توثيق الشهادات الحيّة حول أحداث النكبة في المدن الفلسطينية.
وجاءت الزيارة بهدف الاستماع إلى شهادة الحاج خليل حول ملامح الحياة في مدينة عكّا قبل عام 1948، وتوثيق ذاكرة المكان كما حملها عن والده وأهل المدينة.
عكّا قبل النكبة… مدينة البحر والتاريخ
استقبل الحاج فوزي المندوب بلهفة واضحة للحديث عن مدينته، وبدأ بالتعريف عن نفسه قائلًا:
«أنا خليل فوزي الصّنجي، من مواليد عكّا عام 1945».
وتحدّث عن موقع منزل العائلة في حارة الشيخ عبد الله، إلى جانب مسجد أحمد الجزّار، مطلًّا على البحر، ناقلًا عن والده وصفه لعكّا بأنها مدينة عريقة قديمة، تشبه مدينة صيدا اللبنانية بحاراتها وأزقّتها، لكنها مدينة كبيرة ذات شوارع واسعة تسير فيها الحافلات، ومضاءة عند أطرافها.
وأشار إلى أن عكّا كانت تضم بنية مدنية متكاملة، من شركات باصات، ومراكز ثقافية واجتماعية، ومستشفيات، ومستوصفات، ومعالم دينية كبيرة، ومدارس ضخمة، إضافة إلى قلعة عكّا والسور التاريخي الذي صمد في وجه حملة نابليون بونابرت، وكان يحكمها آنذاك الوالي أحمد باشا الجزّار.
الحياة الاجتماعية والعمل
ذكر الحاج خليل أن والده كان يعمل صيّادًا في البحر، يصطاد مختلف أنواع السمك، إلى جانب عمله سائق سيارة ذات ثلاثة مقاعد فردية، ينقل المسافرين بين عكّا ولبنان وسورية. وكانت العائلة تعيش حياة مليئة بالفرح، حيث اعتاد والده وأقاربه القيام برحلات بحرية، يطهون خلالها أكلة الصيّاديّة من الأرز والسمك المقلي.
واستعاد أسماء بعض الجيران الذين ما زالت أسماؤهم محفورة في ذاكرته، ومنهم: الطحّان، عبد الرحمن، الشقيري، توكّل. وأشار إلى أن منزلهم كان ضمن بناء مؤلّف من ستة طوابق مطلّة على البحر، يضم قطعًا نحاسية تراثية جميلة وصفتها والدته بأنها «موبيليا أثريّة»، لافتًا إلى مظاهر التقدّم في حياتهم آنذاك، من الطبخ على بابور الكاز إلى متابعة الأخبار عبر الراديو.
وأكد أن منزلهم ما زال قائمًا حتى اليوم، لكنه واقع تحت احتلال عائلات صهيونية.
التعليم والدين والتعايش
وتحدّث الحاج خليل عن البنية التعليمية في عكّا، حيث كانت تضم مدارس عديدة حتى المرحلة الثانوية بعدّة فروع، درست فيها شقيقته فائزة إلى جانب زميلات من أبناء الطائفة المسيحية، إضافة إلى جامعات ذات مستوى تعليمي رفيع.
كما وصف مسجد أحمد الجزّار، القريب من منزلهم بنحو ثلاثين مترًا، بأنه بناء حجري أثري شامخ، بزخارف خشبية متقنة، شبّهه بآثار تدمر وبصرى، مذكّرًا بأن المسجد كان يُعرف أيضًا بـ«سجن عكّا». ومن وحي الذاكرة، أنشد الحاج أبياتًا من نشيد:
«من سجن عكّا طلعت جنازة
محمد جمجوم وفؤاد حجازي…»
وأشار إلى حالة التعايش الإسلامي–المسيحي في المدينة، التي سادتها الأخوّة والمحبة، إضافة إلى وجود المقاهي، والخانات للمسافرين، ومطاحن القمح، ومعاصر الزيتون. ولفت إلى أهمية محطّة قطار عكّا التي كانت تصل بين المدن الفلسطينية، وتمتد إلى دمشق ومصر وسائر البلدان العربية.
وتحدّث عن كرم أهل عكّا ومضافاتهم، مؤكدًا أن كرم المدينة لا يقل عن كرم القرى الفلسطينية، رغم أنه لم تسعفه ذاكرته لتذكّر اسم المختار. كما أشار إلى وجود مقام وليّ داخل المسجد، كان الناس –بحسب معتقداتهم– يتعبّدون ويتمسّحون به.
وأكد أن ميناء عكّا كان من أهم معالم المدينة، يضم البواخر والزوارق والصيادين، الذين اشتهروا بصيد أجود أنواع السمك، وعلى رأسها سمك السلطان إبراهيم.
العادات والهجرة
وبعد احتساء فنجان القهوة، تطرّق الحاج خليل إلى العادات الاجتماعية والأفراح، مشيرًا إلى أن أعراس عكّا كانت مميّزة، حيث يرتدي العريس لباسًا فخمًا ويجوب الحارات على إيقاع الطبل والزمر وطرق السيوف والخناجر، فيما تُقدّم موائد عامرة بأطباق المدينة الشهيرة، كـصيّاديّة السمك والأوزي.
وعن الهجرة، أوضح أنه مع اشتداد القصف على المدينة، خرج والده به وبإخوته السبعة ووالدتهم بسيارته إلى مدينة صيدا في لبنان، حيث مكثوا هناك ست سنوات، قبل الانتقال إلى سورية، والإقامة في مسجد بسوق حكمت باشا مقابل سوق الحميدية في دمشق. وفي عام 1984 انتقل إلى مخيّم النيرب، ثم عاد لاحقًا إلى دمشق حيث أسّس عائلة، قبل أن يعود مجددًا إلى مخيّم النيرب عام 2022.
ووصف حياته بأنها سلسلة متواصلة من التنقّلات والحروب والهجرة.
«عكّا هي الوطن»
وفي ختام حديثه، شدّد الحاج خليل على تمسّكه بهويته الوطنية قائلًا:
«أنا ما بتنازل عن وطني وعروبتي وبلادي…
عكّا هي الوطن، مولدي، ولادتي، بلادي…
وأتمنّى أن أرجع إلى عكّا».
وبعد انتهاء المقابلة، التُقطت صورة تذكارية مع الحاج، وقدّم جواز سفر والده بوصفه دليلًا موثّقًا على أحقّيتهم في أرض فلسطين، فيما بقيت رائحة بحر عكّا حاضرة في المكان، شاهدة على ذاكرة لا تنكسر.
